تقديم
تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.
ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.
يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.
التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.
الحلقة 14
في غرفته بشقة مدام لويز، كان منصور ينتقل من قراءة الحلاج إلى فولتير، من ابن زيدون إلى بودلير، من ابن رشد إلى ديكارت، من بلزاك إلى الطيب الصالح، من زولا إلى نجيب محفوظ، من كامي إلى محمد شكري… ينتقل قارئا بِنَهَم لتخفيف الإحساس بالغربة.
يدون باللغة الفرنسية لفولتير ما معناه: “قد أختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد لأن أريق دمي من أجل حقك في الدفاع عن رأيك”..
يشطب بعضا من تعاليقه الهامشية، ليدون من جديد لابن زيدون مخاطبا الوَلادَة بنت الخليفة المستكفي: “أضحى الثنائي بديلا من تدانينا…وناب عن طيب لقيانا تجافينا”..
يعود ليدون لبودلير ما معناه: “أكره الوصايا… / أكره القبور / بدلاً من استجداء دمعة من هذا العالم / وأنا حي …أُفضل أن أدعو الغربان / لتدمي كل أطراف هيكلي النجس”.
كان يقرأ عدة كتب في وقت واحد..
أخذ آخر كتاب كان قد حصل عليه من مكتبة بباريس، قرأ: “…بعد عقود طويلة من إعدامها، مازالت تثير جدلا واسعا في فرنسا، إنها الراقصة الهولندية الأصل ماتا هاري التي احترفت الجاسوسية وأوقعت بين الفرنسيين والبريطانيين؛ انتهت حياتها بإعدامها بعد خمس سنوات من تربعها على عرش نجومية الرقص المحترف في فن الباليه بفرنسا”.
وتنقل الوقائع أن ماتا هاري دخلت ميدان الجاسوسية سنة 1912 ميلادية عندما قررت أن تصبح جاسوسة لصالح الألمان في حربهم ضد فرنسا وبريطانيا. ويقال أيضا إن الراقصة عملت على استدراج النافذين في العسكرية والسياسة الفرنسية والبريطانية لتضاجعهم مقابل ثلاثين ألف مارك لليلة، تضاف إلى ذلك المكافأة التي كانت تنالها من جهاز الاستخبارات الألماني. وبحكم تمرسها في عملية الإغواء تمكنت ماتا هاري من استدراج عشاقها للكلام، فهم لم يبخلوا عليها بالمعلومات حول الاستعدادات العسكرية ومواقع السلاح والفرق المسلحة، وغيرها من الخبايا التي ما كانوا ليعترفوا بها في ظروف مغايرة…”.
بعد ساعات من القراءة، وضع الكتاب جانبا، فكر: إن من البشر من لا تكفيه حياة واحدة..لذا يلجأ البعض إلى حياة سرية تكمل حياتهم العلنية.
أصلح من وضعه في السرير، ثم علا صوته مرة ثانية ليقرأ: “السادسة وعشر دقائق صباحا بمنطقة فانسين شرق باريس، حيث تجمع ثلاثون شخصا في الجانب الأيسر لعمود خشبي. فرقة عسكرية تحمل السلاح وتأخذ مكانها في الجانب الأيمن للعمود. يصل موكب تتقدمه امرأة ترتدي قبعة سوداء تمسك بها إحدى نساء الكنيسة. تتوقف الراهبة مترين بعيدا عن العمود الخشبي لتتقدم المحكوم عليها بالإعدام لوحدها. أحد العساكر يتقدم ليكبل يديها حول عمود الأرز ثم يبتعد. يحمل الضابط القائد للفرقة العسكرية سيفه إلى أعلى، ثم ينزله بحدة. يدوي صوت القنابل ليردي المرأة المكبلة قتيلة. وحتى يغلب اليقين على الشك، يتقدم أحد الجنود بأمر من الضابط ويوجه مسدسه إلى صدع القتيلة ليطلق آخر رصاصة. ماتت الجاسوسة والراقصة المشهورة ماتا هاري يوم الإثنين 15 أكتوبر 1917 من الميلاد”.
ظلت كلمات ماتا هاري تطن في رأسه طيلة تلك الليلة. قال في سريرته: لا مزايدة على القدر..
تساءل قرينه من داخل أفكاره: هل ستنشر أحد كتبك في يوم من الأيام؟..
أجاب مكانه بنبرة غائبة: حتما، لكن الأمر سيأخذ وقتا طويلا.. أنت في أول الطريق..
نام تلك الليلة متعبا منهكا.
The post محطات ومشاهد وذكريات .. القراءة تخفف الإحساس بالغربة في فرنسا appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق