معرض التشكيلي عزيز سيد في قصر الألوان .. جسد المرأة يهتف: لستُ عورة

“أحبكن، سيداتي”.

ليس عنوانا لقصيدة رومانسية لشاعر رقيق، ولا عنوانا لخطاب عاطفي أمام النساء، بل هو شعار معرض فني للفنان التشكيلي عزيز سيد، برواق قصر الألوان بالدار البيضاء، تم افتتاحه يوم الأربعاء 09 مارس 2022، وسيمتد إلى يوم 31 منه.

كان الفنان عزيز سيد هناك داخل الرواق قبل الجميع، صحبة مديرة المعرض الفنانة التشكيلية منية عمور، وزوجها المهندس محمد مجبر، أحد مسيري شركة بلينار المنظمة للمعرض؛ كانوا يضعون اللمسات الأخيرة قبل استقبال المدعوين.

كان الفنان التشكيلي عزيز السيد هادئا، لا يعطيك شعورا بالمسافة المفترضة بين فنان كبير ومتلق عادي من “أيها الناس”؛ متواضع جدا، بسيط جدا، ودود جدا، ينصت باهتمام، ويجيب باقتضاب؛ ربما علمته حكمة السنين أن الثرثرة لا تليق بالمبدعين، المبدع يصمت مادامت أعماله تتحدث بدلا عنه.

أخبرت عزيز سيد بأنني نشرت في صفحتي على “فيسبوك” لوحة من لوحاته التي تصور امرأة شبه عارية، فعلق أحدهم عليها كاتبا: “أين الحياء في اللوحة”؟.

ضحك الفنان باستحياء، وانتظرته ليعبر عن رأيه في السؤال، لكن الجواب أتى من شخص آخر جنبه، شاب أو هو ليس شابا تماما، بدت عليه بعض الجدية وهو يقول: “هذا سؤال لا ينبغي أصلا أن يطرح إزاء عمل فني، والفنان غير ملزم بالالتفات إلى مثل هذه الأسئلة التي لا تتذوق الفن كفن كخالص بعيدا عن أي مرجعية أخلاقية تحاكم الإبداع”.

لم أتكلم، ظللت أنظر إليه، فرأى اندهاشي، وأدرك حجم اندفاعه، فقدم لي نفسه بلطف: “المهندس أحمد سيد ابن أخ الفنان، واكبت تجربة عمي منذ الصغر”. حيّيته، واستأذنته لأسمع وجهة نظر عمه، فقال الفنان عزيز سيد: “أنا أشتغل منذ بداياتي على تيمة الجسد، سواء كان جسد الرجل أو جسد المرأة. أنا مهووس بالجسد الذي استحضرته كل الثقافات والأديان والفنون؛ فكل ما أسعى إلى تحقيقه في أعمالي التشكيلية هو خلق متعه بصرية لكل من ينظر إلى لوحاتي التي تتسم باشتغالات على تيمة الجسد. أنا أبحث بواسطة الجسد عن خطاب بصري جمالي معاصر لا يخدش الحياء. فالجسد الأنثوي الذي شغل الإنسان والأديان وتاريخ الفن هو عندي بسكونه وتموجاته وتمرده لا يكشف عن مفاتنه كجسد للمتعة، بل هو في تناغم تام مع مفردات الزخرفة التي تخدم بناء اللوحة، وبالتالي يمنحها ثراء في خلق متعة بصرية وعمق روحي”.

وبعد قليل من الوقت، بدأ بعض ممثلي وسائل الإعلام يتوافدون، شابة بكاميراتها تتطلع إلى اللوحات، وشابة أخرى أنيقة بميكروفونها تستمع إلى عزيز سيد، وصحافي بربطة عنق أنيقة يلتقط بعينيه المعلومات، وآخر انخرط في الحديث مع مديري المعرض وكأنه يعرفهما من زمن… ثم بدأ المدعوون يلجون من الباب، وكان من بينهم فنانون تشكيليون معروفون، عرفت منهم الفنان حسن شبوغ، عبد الله الحريري، زين العابدين الأمين، عبد الفتاح الجابري. ومن الأدباء كانت الروائية لطيفة الرخاء شهام حاضرة، والكاتبة غزلان الشرايبي، عمر برادة، د. محمد أبو القاسم… ووجوه أخرى حيّت العارضين، وتأملتْ اللوحات، وتبادلت الحديث، وشربت العصير وأكلت الحلوى…

أنا أيضا شربتُ العصير، وتبادلت قليلا من الحديث مع الفنانين الجابري وشبوغ، قبل أن أنطلق في تأمل اللوحات. ألستُ لهذه الغاية أتيت؟.

في مجتمع يعتبر بعضا من جسد المرأة عورة، ومن عريه خلاعة وانتهاكا للدين والقيم، طلعت لوحات الفنان التشكيلي عزيز سيد بنساء تقريبا عاريات، تلمع أردافهن بين الألوان والزخارف، وتكاد نهودهن تخرج من الإطار؛ شعرتُ بأنه يقود ثورة ناعمة ضد هذا التصور الذي لا يفصل تماما بين الواقع والفن، وبين الخطاب الأخلاقي والخطاب الجمالي. ففي كل لوحة امرأةٌ عارية أو شبه عارية إلا من زخرفات مغربية شرقية تستر الحميمي من جسد يخاطب الواقف أمامه بوضوح: “انظر، لستُ فتنة، لستُ مثيرا للغرائز، بل للعقل، للخيال، للمشاعر الغامضة التي تنام بالداخل”.

لقد نجح الفنان عزيز السيد في أن يعطّل غرائز الشهوة لدى المتلقي، ويُشغّل الحواس الأخرى التي تقود إلى الاستمتاع بلحظة جمالية ولّدتها متعة بصرية هي مزيج من الألوان والرموز والعلامات، تصنع صورا لنساء في وضعيات مختلفة وحالات متعددة، وتوقظ كل الأسئلة التي منع “غض البصر” ـ في الواقع ـ من طرحها حول جسد ظل رمزا للغواية والفتنة.

في كل لوحة من لوحات عزيز السيد امرأة، هل هي المرأة ذاتها؟ بالتأكيد أن لكل النساء الملامح ذاتها؛ نفس الوجه، ونفس العينين، ونفس الأنف، ونفس الفم… ونفس الشعر المصنوع دوما من الزخارف وشظايا الصباغة والمنمنمات، ونفس لون البشرة. لكن ماذا عن بقية الجسد؟ ماذا عن العنق والقد والصدر والذراعين والكفين والبطن والظهر والحوض والفخذين والساقين والقدمين… ثمة اختلافات مرئية، لكنها ليست عميقة، لا تصل إلى حد اليقين بأننا إزاء نساء مختلفات. وبالتأمل الصافي في كل لوحة يكبر الاطمئنان بأننا أمام نساء متعددات في جسد امرأة واحدة. أمام المرأة الكادحة التي يكاد ظهرها يقصم من الأثقال في ليل أحمر، وأمام المرأة الأرستقراطية التي تقف بشموخ تداعب بكفيها عصافير في حديقة واسعة.. أمام المرأة المثقلة بأصالتها العربية، وأمام المرأة الموغلة في ثقافتها الأسيوية.. أمام المرأة المغلولة المقهورة، وأمام المرأة الحرة الراقصة بفرح… إنهن جميعا المرأة ذاتها، وإن اختلفت أشكالهن، وإن اختلف انتماؤهن الثقافي أو الطبقي أو الجغرافي… كل اللوحات تتشابه، ولكن ولا لوحة واحدة تشبه الأخرى. تشابه كبير جدا بين اللوحات واختلاف حاد بينها في الوقت ذاته.

ليس لنساء عزيز سيد شعر كما باقي النساء، بل تنسدل من أعلى الرأس خصلات من زخارف ورموز وعلامات، وفي بعضها حروف عربية، تتخذ حالات الشعر الحقيقي في الواقع، غير أنه هنا لا يُمشط ولا يُسرّح، ينطلق بفوضوية جامحا نحو الأعلى، أو يتدلى بلا ترتيب نحو الأسفل. وكثيرا ما يتماهى الشعر وغطاء الرأس ولا تدري أعَلى رأس المرأة شعر أم غطاء. وفي اللوحات ذات الأجواء الأسيوية، ثمة نساء يضعن على الرأس أغطية وقبعات بوضوح شديد.

…. جالسات أو واقفات، ساكنات أو متحركات، ماشيات أو راكضات، حزينات أو سعيدات، خاضعات أو متمردات… في كل لوحة حالة، وكل حالة تحكي حكاية. هل هي الحكاية ذاتها التي أراد الفنان عزيز سيد أن يرويها على لسانهن؟ قد يكون الجواب نعم وقد يكون لا. فعلى عكس الفنان الذي يجتهد لكي يصل المعنى الذي أراده إلى المتلقي فإن الفنان التشكيلي عزيز سيد يجتهد لكي يصل المتلقي إلى المعنى الذي لم يتصوره، ككل التشكيليين ربما. فأغلب الذين صادفتهم يطربون لسماع معنى غير متوقع للوحاتهم، يسعدون أكثر إذا تعددت التأويلات واختلفت حدّ التصادم، التأويلات المقنعة طبعا، التي تحترم شيئا من (العقل) وليست تحصيل شطحات.

بعض اللوحات كانت مغايرة. لم يكن جسد المرأة موضوعها، بل جسد الرجل. واضح أنهم رجال، فلا نهود بصدورهم، وثمة زغب يعطي الذقن. لكن أسلوب اشتغال عزيز السيد عليها جعلها تشبه اللوحات الأخرى، تكاد لا تفرق بينها من النظرة الأولى… وحتى بعد اكتشاف الفرق لا تجد فرقا. هل هي رسالة من الفنان دسها في معرضه تؤكد أن جسد الرجل وجسد المرأة واحد في ألمه وتعبه وانطلاقه وإخضاعه؟ من المحتمل جدا أن تكون هذه إحدى الرسائل، ومن المؤكد أنها وصلت.

لا يمكنك زيارة معرض عزيز سيد بقصر الألوان بالدار البيضاء دون أن تشعر ـ بمجرد الوقوف أمام اللوحات ـ بأياد تخطفك إلى عوالم خيالية تزدحم فيها الألوان والرموز والموسيقى والتاريخ والمسرح والحكايات… كل لوحة هي حكاية تبدأ ولا تنهي. وزيارة واحدة لا تكفي لتنصت إلى كل الحكايات حتى النهاية.. لا بد من زيارة ثانية، فالمعرض سيمتد إلى غاية 31 مارس 2022.

The post معرض التشكيلي عزيز سيد في قصر الألوان .. جسد المرأة يهتف: لستُ عورة appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عن الكاتب

لقد تم توليد هذا النص من مولد النص العربى، حيث يمكنك أن تولد مثل هذا النص أو العديد من النصوص الأخرى إضافة إلى زيادة عدد الحروف التى يولدها التطبيق، إذا كنت تحتاج إلى عدد أكبر من الفقرات يتيح لك مولد النص العربى زيادة عدد الفقرات كما تريد، النص لن يبدو مقسما ولا يحوي أخطاء لغوية، مولد النص العربى مفيد لمصممي المواقع على وجه الخصوص، حيث يحتاج العميل فى كثير من الأحيان أن يطلع على صورة حقيقية لتصميم الموقع.

إعلان