عشنا وما زلنا نعيش الأزمة التي تسبب فيها الانتشار السريع لكوفيد 19 في العالم وفي بلدنا المغرب، وتعرفنا عن قرب وبوتيرة يومية عن المستجدات بخصوص انتشار هذا الفيروس والتحولات التي طرأت عليه والمتغيرات المستجدة كان آخرها انتشار متحور “أوميكرون”. عندما نقارن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في البداية كالحظر الصحي التام وضرورة ارتداء والكمامة والتباعد، في وقت كانت فيه حالات الإصابة متدنية وما حدث في مراحل موالية من تخفيف للحظر في وقت كانت فيه الحالات مرتفعة، ندرك أن هناك ارتباكا واضحا وتغيرا ناتجا عن إدراك متزايد لطبيعة الفيروس والطرق التي يجب تبنيها لمقاومة انتشاره.
يناقش المقال الأزمة في بعدها التواصلي لأنه من وجهة نظرنا كان له دور كبير في درجة تجاوب الناس مع السياسات الحكومية في الموضوع. في بداية الجائحة كان التجاوب نسبيا إيجابيا والتزم أغلب الناس بالتدابير الاحترازية لكن مع رفع الحظر (يونيو، يوليوز 2020) لغايات اقتصادية، تبين أن خطاب السلطات الصحية والحكومية بدأ يتغير تدريجيا بتغيير الحظر إلى إغلاق ليلي جزئي وبدأ الحديث عن اللقاح كوسيلة لمقاومة انتشار الفيروس والحد من انتشاره خلال الموجة الثانية. لن أركز على التفاصيل لأن الجميع عاشها كل حسب حالته وظروف تفاعله مع انتشار المرض، لكني أركز على مسألة التواصل كوسيلة للإخبار والتفاعل والإقناع.
في البداية كان الإخبار أساسيا لأن الجميع كانوا يتابعون المستجدات بكل تفاصيلها وكان مستوى الثقة في النشرات اليومية للسلطات الصحية والحكومية مرتفعا، لكن مع تغير الظروف وإدراك الناس أن المعلومات والإجراءات كانت غير دقيقة وغير فعالة خصوصا بعد إدخال العامل الاقتصادي في الموضوع (عيد الأضحى ورجوع المهاجرين)، بدأ المواطن يشكك في صدقية المقاربة الصحية خصوصا وأن اختلاط الناس خلال هذه الفترة رفع من مستوى الإصابات. كما بدأ البعض يشكك في مقاربة الدولة للأزمة ووصفها بأنها سياسية تحكمية تهدف إلى زيادة شرعية الدولة وخدمة أجندة معينة. بعد انخفاض مستوى الإصابات وبداية عملية التلقيح، عاد الخطاب الرسمي إلى التواصل الإقناعي بضرورة التلقيح وقد كان ناجحا في البداية رغم تشكيك البعض في فعالية اللقاحات المتوفرة واحتمالية ظهور أعراض جانبية في المستقبل.
غير أن هناك أخطاء قاتلة حدثت جعلت مستوى الثقة ينهار إلى مستوى جد متدن خصوصا في ما يخص فرض جواز التلقيح. لفهم هذا الخطأ وغيره من الأخطاء التواصلية، يجب تأطير النقاش من خلال ما يعرف بتواصل الأزمة الذي يعتبر فرعا مهما في التواصل كتخصص أكاديمي ومعرفي، ومن خلال ما يعرف بمقاربة الاقتصاد السياسي للتدبير الحكومي للأزمة.
لا يقتصر ارتكاب أخطاء تواصلية على المسؤولين محليا بل هو ظاهرة عالمية حدثت في كل الدول. يكفي التذكير بأخطاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما قلل من خطورة الفيروس ولاقى بذلك انتقادا لاذعا من المنافسين والصحافة. نشرت المراكز الأمريكية للتحكم في الأمراض والوقاية [CDC] منشورا يهم التواصل خلال الأزمات وحالات الطوارئ [CERC] يحدد 6 مبادئ للتواصل الجيد خلال الأزمات ومن ضمنها جائحة كوفيد. نلخص هذه المبادئ ونحاول فهمها من خلال تطبيقها على السياق المغربي.
أن تكون الدولة أول مصدر للمعلومة وإن كان هناك شح في مصادرها -غير أنه يجب الاعتراف بذلك وإبلاغه للمواطن- لأن الأصوات الأولى هي الأكثر تأثيرا. السبق في إعطاء المعلومة يبني الثقة مع المخاطب.
الدقة والشفافية في إعطاء المعلومة، أي يجب على المسؤول الحكومي أن يبلغ الناس بما هو معروف وغير معروف في الأوساط العلمية. نتذكر جيدا تعليق رئيس الحكومة السابق حول الكمامة، كونها غير ضرورية في بداية انتشار الفيروس.
يجب الحفاظ على المصداقية، بحيث أن المسؤول يكون أهلا للثقة إن كان شفافا من حيث درجة دقة المعلومات التي يتوفر عليها. في حالة الخطأ يكون الناس أكثر تفهما لأن المسؤول كسب ثقتهم بالشفافية التي يتبناها.
لأن الأزمة زرعت في الناس شعورا باللايقين والخوف والقلق، فعلى المسؤول الذي يخاطبهم الاعتراف بوجود هذا الشعور لذى الجميع وبأثره على حياتهم. فالاعتراف بمخاوف الناس يبني جسور التواصل معهم ويخلق الثقة. كما أن عدم الاعتراف بذلك، كأن تنعت الناس الذين يبدون هذا النوع من الشعور بالأقلية كما فعل السيد وزير الصحة والحماية الاجتماعية، قد يهدم هذه الثقة.
لأن المستوى العاطفي يكون في أوجه لدى الناس في مواجهة المخاطر، فهم يحتاجون إلى خطوات عملية لاتباعها لمواجهة هذه الأخطار. يجب على المسؤول أن يحدد الخطوات بطريقة واضحة للناس حتى يخفف من مخاوفهم ويساعدهم على مواجهتها وتجاوزها بطرق عملية.
احترام مشاعر الناس وذكائهم يعزز الثقة. نظرا لأن المعلومات متضاربة حول الفيروس وحول اللقاح، فيجب على من يخاطب الناس أن يعترف بوجود هذا التضارب في الآراء وأن يعترف بمحدودية البراهين العلمية وحاجة التجارب العلمية إلى المزيد من الوقت، ويبدي اهتماما بمشاغل الناس وقلقهم إزاء الموضوع. يجب أن لا تتحول حملة تشجيع الناس على التلقيح إلى دعاية سياسية، تقسم الناس إلى أشرار وأخيار.
يمكننا تطبيق هذا النموذج التواصلي من تحديد بعض الأخطاء التي ارتكبها من يتكلم باسم السلطات الصحية والحكومية. إذا كان المسؤولون في مجال الصحة يتوفرون على خبرة وعلم لا يمكن انكارهما في مجال الصحة، فإن ما ينقصهم هو القدرة على التواصل مع الناس بطرق تواصلية مبنية على الخبرات والمعارف التي راكمتها مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية في مجال التواصل الفعال. يوجد في الدول الغربية وكالات خاصة تستأجر لإعطاء النصيحة للقادة في مجال التواصل خلال الانتخابات وفي الظروف الاستثنائية. يبدو أن بعض المسؤولين المغاربة لا يفرقون بين الكفايات الواجب التوفر عليها للتواصل. الخبرة والمعرفة العلمية أساسية، وهي المهارات الصلبة التي لا يمكن لأي متكلم في مجال الصحة أن يكون جاهلا بها، كما أن مهارات التواصل أساسية كذلك، وهي المهارات الناعمة التي تمكن المتكلم من تحقيق الأثر والتأثير في الناس بطريقة إيجابية.
أولى الأخطاء هو عدم احترام مشاعر الناس والاعتراف بمخاوفهم ومشاركتها معهم خصوصا في ما يتعلق باللقاح. لم يكن فرض جواز التلقيح مشكلا في حد ذاته، بل الطريقة التي تواصلت بها السلطات مع المواطن وخصوصا استعمال الخطاب الإقصائي والتحكمي من طرف وزير الصحة وتوقيته، الأمر الذي أدى إلى خروج الناس للشارع للاحتجاج في إطار حركة اجتماعية عفوية شارك فيها الناس من كل الفئات الاجتماعية، يجمعهم فقط الخوف والقلق الذي لم يعترف به وزير الصحة. إذا كان الوزير متأكدا من فعالية اللقاح، وقد يكون ذلك صحيحا، فليس له الحق أن يستبد برأيه ويهمش مخاوف الناس ولا يحترم حقهم في التعبير عنها خصوصا وأن الناس معرضون لكل أشكال التشكيك والأخبار الزائفة. كان من المجدي التدرج في تحفيز الناس للتلقيح عبر تواصل يأخذ في الاعتبار مخاوف الناس وجو التشكيك الذي يحيط بهم.
بسبب قوة الاحتجاجات، تراجعت الدولة عن فرض جواز التلقيح والجواز الصحي وعوضته بحملة دعائية كانت ستكون ناجحة لولا فقدان الثقة بين المسؤول والمواطن بسبب فرض الجواز بطريقة اعتباطية، وعدم احترام مخاوفه وتفهمها. أتأسف وأنا ألاحظ الجهد الكبير الذي تبذله السلطات في إقناع الناس عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، لدرجة أن وزير الصحة أصبح يرجو الناس أن يأخذوا الجرعة الثالثة من اللقاح لحماية أنفسهم وعائلاتهم. يبقى تأثير هذه الحملة الدعائية محدودا ويشهد على ذلك تدني وثيرة التلقيح. قد يساعد انتشار متحور “أوميكرون” على إقبال نسبي للناس على التلقيح لإدراكهم المخاطر عبر تصاعد أرقام الإصابات والوفيات. قد يرصد القارئ أخطاء أخرى باستعماله وتطبيقه للمبادئ المذكورة سابقا، ولن نضيف أمثلة أخرى لأن الهدف ليس رصد العيوب بقدر ما هو تعلم للدروس.
يتناول الشق الثاني من المقال علاقة استراتيجيات التواصل بأجندة الدولة السياسية والاقتصادية. كما قد يلاحظ القارئ، فإن الظروف الاستثنائية وحالة الطوارئ ساعدت الدولة على زيادة تواجدها في الفضاء العمومي وبالتالي زيادة سلطتها ومشروعيتها. غير أن بعض التناقضات تكشف عن أجندة ليست بالضرورة مبنية على انشغالات بالحماية الصحية. كان رفع الحظر الصحي الكلي مع اقتراب العيد [2020] مبررا اقتصاديا ونتج عنه ارتفاع مهول في حالات الإصابة. قد تكون للدولة مبرراتها ويعتبر هذا القرار محاولة لإقرار توازن بين ما هو صحي وما هو اقتصادي، تمليه صعوبة الوضعية الاقتصادية ومعاناة الكثير من الفاعلين الاقتصاديين من جراء الأزمة. كما تم رصد توجه في استراتيجية الدولة لدعم سلطتها أحيانا بطرق غير منظمة وغير مبنية على المساواة كالإجبار الانتقائي وإصدار غرامات وعقوبات في حق البعض واستثناء آخرين، والقيام بحملة دعائية تهم صحة المواطن لأهداف سياسية، أظهرت الأيام أنها كانت مجرد دعاية، مع استثناء مشروع الحماية الصحية الذي يعتبر مكسبا استراتيجيا وقرارا واعدا.
كان اعتماد مقاربة أمنية ضروريا من وجهة نظر السلطة لأن الحزم مطلوب في حالات الأزمة، غير أن حالات الطوارئ كانت تستعمل أحيانا لمنع بعض التجمعات الاحتجاجية، في الوقت الذي كانت نسبة الحالات متدنية. يعتبر التناقض في التعامل مع الواقع المتغير مبررا ومفهوما لأن المستجدات في المجال الصحي والبحث العلمي تفرض تعاملا مطابقا ومناسبا. غير أن تأطير الأجندة والتدخلات كان يتم بتأطير سياسي ووفق انشغالات الدولة الاقتصادية.
إذا كان تدبير الدولة للجائحة إيجابيا إلى حد كبير، تبقى الأخطاء في التواصل في الشهور الأخيرة عائقا في استمرار هذا التدبير الإيجابي للأزمة. قد يجنبنا تواصل الدولة مع المواطن بطرق أكثر علمية وواقعية، مع احترام وتفهم مخاوف الناس والتحكم في المعلومة، لكن بشفافية، تطورات غير إيجابية في المستقبل.
The post التواصل وتدبير الأزمة خلال جائحة كوفيد 19 appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق