لماذا تنقُد النّصوص الأدبية؟ هل مازال النقد ضروريا؟ هل كل النصوص الإبداعية قابلة لأن تنتقد؟ عمّ يبحث النص النقدي في النص الإبداعي؟. لا شك أن هذه الأسئلة وسواها تضع المتأمل في جوهر ماهية ووظيفة النقد الأدبي، مثلما تضعه أمام البحث عن تصور (نظري) لطبيعة موضوعاته ومرجعياته ومناهجه التي يتوسل بواسطتها التعلق بألوان شتى من الأنشطة الإبداعية، وما يوافقها من تجارب ومجالات تحددها علاقة الأدب بالثقافة.
يبدو أن النظرية الأدبية لم تحسم الأمر بعد، ولذلك فهي تطوّر وعيها باستمرار كلما ظهرت الحاجة إلى تجديد علاقة النصوص الأدبية باللغة الواصفة التي تقاربها، وكلما أضحى الحديث ممكنا عن تعميق البحث حول وظيفة الكتابة وقدرتها على إنتاج متخيل اجتماعي يتعدّى نطاق جعل الأدب صورة من الواقع.
ثمة دائما اختيارات نظرية وتطبيقية تربط الكتابة الإبداعية بالكتابة النقدية، وتفتحهما على أبرز الإشكاليات الثقافية والفكرية لمجتمع ما؛ وهذا ما يخرج الكتابة النقدية من دائرة الاستعراض المنهجي ويلحقها بدائرة أكثر اتساعا، تقترب من فهم القيمة الجمالية للأعمال الأدبية والفنية. وهذا أمر يتطلب الانتباه إلى موقف إجرائي محتمل: إن الاهتمام بتغيير منظور السؤال النقدي لا يمكنه أن يتمّ بمعزل عن تغيير منظور السؤال الأدبي.
كيف نقرأ الأدب الكلاسيكي؟
لم يطرح عبد الفتاح كيليطو سؤال ما هو الأدب بصيغة مباشرة في مجمل أبحاثه؛ بيد أنه سؤال حاضر ضمنيا بمفارقاته وبتاريخه. من هنا، لا ينشغل كيليطو في دراساته بالنظرية والتنظير، تجده أقرب إلى فهم “الخاصية الطبيعية” للنص الأدبي لأنها تمنحه اليقين (أو ما يشبهه) وتبعد عنه اليأس؛ فقد قال ذات يوم:
“نبدأ باليأس. نقرأ كتابا ونشعر بأننا نرغب في الكتابة عنه، ثم لا نجد ما نقول ونيأس. في لحظة ما نجد صورة أو تستوقفنا كلمة، فنخطها، ونرسم تلك الصورة، وهكذا تتجمع الكلمات وتتحاور الصور. المهمّ ألا يستمرّ اليأس”.
مغالبة اليأس في قراءة الأدب ودراسته تصبح، إذن، لدى عبد الفتاح كيليطو شاغلا ثقافيا يمنحه حدودا مرجعية ويؤطره بجملة من القواعد.
تدور كلّ أبحاث عبد الفتاح كيليطو حول الأدب الكلاسيكي (مع العلم أنه دارس ماهر للأدب الحديث أيضا)، ووفق اهتمام خاص ومتلاحق مداره سؤال جوهري: كيف نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ وقبل ذلك: ما معنى الكلاسيكية في الأدب؟ ولماذا نعيد قراءة الأدب الكلاسيكي ونجدّد فهمنا لأبعاده الجمالية والتاريخية والمعرفية؟ هل لاعتقادنا بأن النصوص التي استطاعت أن تكتسب صفة الكلاسيكية تتميّز عن غيرها بكونها ابتكرت شكلا ومضمونا غير مسبوق؟ هل كانت الكلاسيكية في زمنها حداثة؟ في هذه الحالة فالكلاسيكية مثلها مثل الحداثة مفهوم زمني. ربما لهذا الاعتبار يتسرّب إلينا الإحساس بكون الأعمال الكلاسيكية مُملة، وأننا نقرؤها فقط لأننا نكون مجبرين على ذلك في المدرسة والجامعة؛ الأدب الكلاسيكي بهذا المعنى أداة بيداغوجية مفيدة للتعلّم.
لإيتالو كالفينو كتاب في الموضوع “لماذا نقرأ كلاسيكيات الأدب؟” Pourquoi lire les classiques خصّص مباحثه لبحث معنى الكلاسيكية في الأدب وعلاقتها بأسئلة الكتابة والقراءة والأعراف الاجتماعية والمؤسسة الثقافية وتاريخ الأدب. رغم اقتراح كالفينو للعديد من تحديدات الكلاسيكية في الأدب، إلا أنها ظلت شخصية وحدسية، تترجم صعوبة التعريف ونسبيته. لم يتحدث إيتالو كالفينو في كتابه عن ألف ليلة وليلة، ولا عن الإلياذا والأوديسا؛ ولم يلتفت إلى سيرفانتيس أو بوكاشيو، لا إلى شكسبير أو دوستويفسكي؛ حلل ديدرو وديكنز، فلوبير وتولستوي، موباسان وتشيكوف، هانري جيمس، همنغواي وآخرين … نقرأ بحث كالفينو، ويبقى مع ذلك السؤال عن معنى الكلاسيكية مفتوحا ومتقاطعا مع مبررات الاعتبار وتحديد السمات. إن الأعمال الكلاسيكية، في تصوّره، هي تلك الكتب التي نسمع كثيراً من يقول عنها: إنني بصدد إعادة قراءتها، ولا نسمع أبداً من يقول: إنني بصدد قراءتها؛ إنها الكتب التي عندما تصل إلينا تكون حاملة لأثر القراءات التي سبقت قراءتنا، كما تستدعي الأثر الذي تركته في الثقافة أو الثقافات التي عبرتها.
أشرت سابقا إلى أن عبد الفتاح كيليطو يتخذ من الأدب الكلاسيكي مدار بحث وتحليل منذ «المقامات» و«الأدب والغرابة» و«الكتابة والتناسخ» و«الغائب» (1978)، مرورا بـ «الحكاية والتأويل» (1988) و«لسان آدم» (1995) و«أبو العلاء المعري أو متاهات القول» (2000)، و«الأدب والارتياب» (2007)، و«من شرفة ابن رشد » (2009)…قد يبدو من الصعب الإحاطة بكلّ القضايا التي تسمح باستخلاص فهم كيليطو لتصوّر الأدب الكلاسيكي في مجمل دراساته. سأكتفي بإشارات ذات قيمة تمثيلية تسمح بتقديم بعض عناصر الإجابة عن السؤال المركزي المشكل لعنوان هذا المقال.
عادة ما يُدير عبد الفتاح كيليطو فرضياته عن الأدب الكلاسيكي حول مفهوميْ النصّ والنّوع، يبحث في كيفية تعالقهما وتشكلهما بحسب مقتضيات التاريخ والمتخيل الاجتماعي. لهذه الغاية. يمنح كيليطو لمكوّن اللغة مكانة خاصة في تحليلاته، متخذا من مستويات القراءة وإجراءات التأويل خيارا منهجيا لفهم ماهية الأدب، وإقامة الدليل على أن تشييد تصوّر للأدب الكلاسيكي يتمّ من خلال قرون متلاحقة تستتبع تقبلا لمعاني النصوص كما هي في الماضي والحاضر أيضا.
خصّص كيليطو أحد مباحث القسم الأول من كتابه “الأدب والغرابة” لدراسة الأدب الكلاسيكي من خلال ملاحظات منهجية أدرجها ضمن سؤال عامّ: “كيف ندرس الأدب الكلاسيكي؟”، مؤكدا أنه من الصعب الإحاطة بملامح النسق الكلاسيكي. ولا شكّ أن علاقة التوتر الموجودة بيننا وبين النصّ الكلاسيكي ستستأثر بمزيد اهتمام ما دامت مؤلفات الماضي لا تقترب منّا إلا إذا بدأنا بإبعادها عنا (الأدب والغرابة: ص 52)؛ ولا شكّ أن إحدى فرضيات “علاقتنا المعاصرة” بنصوص الماضي يمكن إدراجها ضمن تاريخ للتلقي بوصفه شرطا لازما لفهم الآداب الكلاسيكية من منظور “التطوّر الأدبي”.
يتساءل عبد الفتاح كيليطو في كتابه “المقامات”: ماذا نصنع بالهمذاني والحريري؟ (ص8)؛ مثلما يتساءل في كتابه “من شرفة ابن رشد”: كيف نقرأ كليلة ودمنة؟ (ص11)، وفي كلّ مرة تقوده تقديرات التحليل إلى اعتبار أساسي مفاده أننا حين نعكف على درس أنفسنا نعكف على النص الكلاسيكي، وأنّ الخطاب عن الماضي هو في الآن ذاته خطاب عن الحاضر (المقامات:ص8). النصّ الكلاسيكي ثابت وقراءته متبدّلة ومتغيّرة؛ النص ثابت لأن لغة الأدب الكلاسيكي تبدو عتيقة ومتحجرة، أي تبدو بعيدة عن لغة الحياة اليومية. إن عتاقة اللغة علامة من علامات الأدبية وشرط من شروط الاعتراف بالكلاسيكية. (أنظر: المقامات:ص 163-164).
من هنا حين يحلّل عبد الفتاح كيليطو حكايات من ألف ليلة وليلة أو من كليلة ودمنة، من مقامات الهمذاني أو الحريري فإنه ينشغل أساسا بفهم تمثلات الكلاسيكية في الثقافة العربية انطلاقا من مبررات انتساب النص إلى نوع أو إلى تقليد أدبي، مانحا للغة مفهوما أوسع من مفهوميْ النصّ والنوع؛ وفي هذه الحالة لماذا تختلف مقامة القرن 4 ه /10 م عن مقامة نهاية القرن 19 وبداية القرن 20؟ الاختلاف كامن بينهما لأن لكل منهما نسق أدبي يحيل على استعمال معين للغة، وتصوّر للأدب يمنح المؤلف الكلاسيكي امتياز ابتداع القواعد لا اتباعها، لأن تطوّر الأدب لا يتمّ فقط من خلال تجديد الأشكال والجماليات، بل يتحدّد في علاقته بإيقاعات الحياة.
بعض الخلاصات
– قراءة عبد الفتاح كيليطو للأدب الكلاسيكي ثقافية: عادة ما يعود إلى فقه اللغة، والتاريخ، والفلسفة، وعلم الأديان وعلم الأساطير ولسان العرب.
– يتحدد تطوّر الأدب الكلاسيكي – في نظر كيليطو – بالداخل ويتحدد أيضا بسيرورة التاريخ الثقافي العامّ.
– الكلاسيكية في رأي كيليطو ليست مجموعة من الأعمال الأدبية، بل هي ممارسة في الكتابة وقدرة الثقافة على إنتاج أشكال أدبية ممتدة في الزمن.
– الكلاسيكية هي ما يلزم تدريسه: في النص الكلاسيكي هناك معارف كثيرة تبني صرحه الأدبي.
– الكلاسيكية استعمال معين للغة لا بوصفها مادة تعبير، بل باعتبارها مادة تفكير.
– الكلاسيكية بلاغة وليست مغامرة شخصية لكاتب؛ والبلاغة هنا مجموعة من القيم المشروطة بمجتمع.
***
اعتمدت في صياغة هذه الفقرات على الكتب التالية:
مجلة أوال عدد 11 / 7 – 13 يناير 2011
عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة دراسات بنيوية في الأدب العربي،توبقال،ط3 2006
عبد الفتاح كيليطو، المقامات السرد والأنساق الثقافية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، توبقال،1993
Todorov Tzevetan, Critique de la critique : Un roman d’apprentissage, Paris : Seuil, 1984
Calvino Italo, Pourquoi lire les classiques, Traduction Jean-Paul Manganaro, Seuil, coll. Points, 1996
The post الحجمري: هذه بعض تمثلات كيليطو لـ"الكلاسيكية" في الثقافة العربية appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق